هو: عبدالله بن المبارك
بن واضح، أبو عبدالرحمن، الحنظلي مولاهم، التركي، ثم المروزي، الحافظ، الغازي، أحد
الأعلام، الإمام، شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، كان أبوه
تركيًّا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، فكان ابن المبارك إذا قدمها
أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية، ولد في إقليم خراسان في مرو سنة:
(118هـ) .
تتلمذه وطلبه للعلم
رحمه الله:
حرص الإمام ابن المبارك
على العلم، فبدأ في طلبه وهو ابن عشرين سنة، ولا ندري ما سبب تأخُّره في ذلك، فلعل
ذلك راجع إلى حال أسرته، ومع ذلك فقد حصَّل علمًا كثيرًا، وليست العبرة بالتبكير
في طلب العلم ولا طول السنين فيه، ولكن بحصول البركة والتوفيق، فلما وضع ابن
المبارك قدمه على طريق العلم اجتهدًا اجتهادًا عظيمًا في التحصيل حتى فاق غيره،
قال أحمد بن حنبل: "لم يكن في زمانه أطلب للعلم منه، جمع أمرًا عظيمًا ما كان
أحد أقل سقطًا منه، كان رجلًا صاحب حديث حافظ"؛ قال ابن المبارك عن نفسه:
"حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف شيخ".
وقد كان أقدم شيخ لقيه:
هو الربيع بن أنس الخراساني، تحيل ودخل إليه إلى السجن، فسمع منه نحوًا من أربعين
حديثًا، ثم ارتحل في سنة (141هـ)، وأخذ عن بقايا التابعين، وأكثر من الترحال
والتطواف، فقد ارتحل إلى الحرمين، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، وبعض الأماكن
في خراسان، وكان من شيوخه الذين روى عنهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل
بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبان بن تغلب، وغيرهم .
علمُه رحمه الله:
كان الإمام ابن المبارك
من كبار العلماء الذين عرف أهل العلم رسوخهم فيه، وشهدوا لهم بسمو الرتبة في
تحصيله وتعليمه والعمل به، وأثنوا عليه بهذه الخصلة العظيمة التي هي واحدة من
خصاله الكثيرة؛ قال أبو عمر بن عبدالبر: "أجمع العلماء على قبوله وجلالته
وإمامته وعدله"، وقال ابن معين: "كان عبدالله رحمه الله كيِّسًا
مستثبتًا ثقة، وكان عالِمًا، صحيح الحديث، وكانت كتبه التي يحدث بها عشرين ألفًا
أو واحدًا وعشرين ألفًا".
وقال محمد بن عبدالوهاب
الفراء: "ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة: ابن المبارك، والنضر بن شميل،
ويحيى بن يحيى".
وقال شعيب بن حرب:
"ما لقي ابن المبارك رجلًا إلا وابن المبارك أفضل منه"، وقال أبو أسامة:
"ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس ، وقال أبو إسحاق
الفزاري: "ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين"، ولَمَّا مات ابن المبارك
قال هارون أمير المؤمنين: "مات سيد العلماء".
لقد كان ابن المبارك
يرى أن العلم أعظم المكرمات التي لا يحتاج معها إلى مكرمة سواه، فقال: "عجبت
لمن لم يطلب العلم، كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة؟!".
وكان رحمه الله شغوفًا
بالقراءة، محبًّا للكتب، يرى في الجلوس معها أنسه وراحته، ويجد في البقاء بينها
نجاة من مجالس الغيبة ومقاعد ضياع الأوقات، قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك:
إذا أنت صليتَ لِم لا تجلس معنا؟ قال: "أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم
وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس؟!".
وكان رحمه الله لا يقرأ
العلم ولا يحفظه ليبزَّ به غيره، ويطلب به عرضًا من الدنيا، بل كان يطلبه للعمل،
ولذلك أُثر عنه إقباله على العبادة والعمل بما تعلم، قال نعيم بن حماد: "ما
رأيت أعقل من ابن المبارك، ولا أكثر اجتهادًا في العبادة"، ومن عمله بالعلم
أنه رُئي بمكة أتى زمزم، فاستقى شربة، ثم استقبل القبلة، فقال: "اللهم إن ابن
أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (ماء زمزم لما شُرب له)، وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه"، وكانت
دعوته رحمه الله مستجابة، قال الحسن بن عيسى: "كان مجاب الدعوة"، ومن
أدلة ذلك: ما جاء عن وهب أنه قال: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال له: "أسألك
أن تدعو لي أن يرد الله عليَّ بصري، فدعا الله، فرد عليه بصره وأنا أنظر"،
فلعله سينال ما دعا به رحمه الله، ومن أمثلة عمله بعلمه: ما قاله الحسن بن عرفة
قال: قال لي ابن المبارك: "استعرت قلمًا بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما
قدمت مرو، نظرت، فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه".
وهذه غاية سامية في
الأمانة!
وكان غفر الله له حسن
التعليم، فقد عطس رجل عنده، فقال له ابن المبارك: "أيش يقول الرجل إذا عطس؟
قال: الحمد لله، فقال له: يرحمك الله".
ومع هذه المكانة
العلمية السامقة إلا أنه كان متواضعًا لأهل العلم من أقرانه وغيرهم، حسن الأدب
معهم، قال يحيى بن يحيى الأندلسي: "كنا في مجلس مالك، فاستُؤذن لابن المبارك
فأذن، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بلصقه ولم أره تزحزح لأحد في
مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك فربما مر بشيء، فيسأله مالك: ما عندكم في
هذا؟ فكان عبدالله يجيبه بالخفاء، ثم قام فخرج فأعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا: هذا
بن المبارك فقيه خراسان".
وكان محبوبًا بين الناس
لعلمه وعمله به، معروفًا بينهم إذا قدم مكانًا احتفل به أهله، فقد قدم الرشيد
الرقة، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم
ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان
قدم، قالت: هذا والله المُلك، لا مُلك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان".
من أقواله رحمه الله:
تناقل أهل السير
أقوالًا كثيرة لابن المبارك، تشع منها أنوار الحكمة والهداية، فمن أقواله في العلم
وأهله:
قيل له: إلى متى تكتب
العلم؟ قال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد".
جودُه رحمه الله:
كان الجود والكرم من
أظهر خصال الخير في ابن المبارك، حتى صدق فيه قول الشاعر:
هو البحرُ من أيِّ
النَّواحي أتيتهُ
فَلُجَّتهُ المعروفُ
والجودُ ساحلُهْ
تعوَّدَ بسطَ الكفِّ
حتَّى لوَ انَّهُ
دعاها لقبضٍ لم
تُجِبْهُ أناملُهْ
ولو لم يكن في كفِّهِ
غيرُ نفسهِ
لجادَ بها فليتَّقِ
الله سائلُهْ
وقد كان رحمه الله
تاجرًا غنيًّا شاكرًا رأس ماله نحو الأربعمائة ألف .
عمل في التجارة لأسباب
صالحة تتعلق به وبمن يحب؛ فقد "قال علي بن الفضيل: سمعت أبي يقول لابن
المبارك: "أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟!
قال: "يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة
ربي". وكان على رأس من يحب: العلماءُ وطلبةُ العلم؛ فقد كان يكرمهم فينفق
عليهم نفقات كثيرة، ويحسن صِلاتهم، ويتفقد أحوالهم؛ حتى يعينهم على الاستمرار في
التعلم والتعليم، فقد قال للفضيل بن عياض: "لولا أنت وأصحابك ما اتجرت، قال:
وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم".
وقال الحسن بن حماد:
دخل أبو أسامة على ابن المبارك، فوجد في وجهه عبد الله أثر الضر، فلما خرج، بعث
إليه أربعة آلاف درهم، وكتب إليه:
وفتىً خلا من ماله
ومن المروءة غير خالِ
أعطاك قبل سؤاله
وكفاك مكروهَ السؤالِ
"وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف
درهم، فقال: سدَّ بها فتنة القوم عنك".
وقد "عوتب ابن
المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل
وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا، فإن تركناهم، ضاع
علمهم، وإن أعناهم، بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أعلم بعد النبوة
أفضل من بث العلم" .
ومن جهات جوده التي عرف
بها: إكرامه لإخوانه وجيرانه في نفقات الحج، فكان رحمه الله إذا كان وقت الحج،
اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ
نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد،
فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد
بأحسن زي، وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول: كذا
وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن
تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال
ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة
أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع إلى كل
رجل منهم صرته عليها اسمه".
وفي مرة من المرات
"خرج إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة،
وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار
قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، فكشف عن أمرها وفحص، حتى سألها، فقالت: أنا وأختي
ها هنا، ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وقد حلت لنا الميتة، وكان أبونا له مال عظيم،
فظُلم وأخذ ماله وقُتل، فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من
النفقة؟ فقال: ألف دينار، فقال: عد منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو، وأعطها
الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع".
وهذا هو الفقه، فما
أجمل المال إذا انضم إليه الفقه، ومعرفة مقاصد الشريعة وغاياتها، والعلم بكيفية
الموازنة بين شعائرها!
وقال إسماعيل بن عياش:
"ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة، فكان يطعمهم الخبيص ، وهو
الدهرَ صائمٌ".
ومن جهات جوده: قضاء
ديون المدينين، وما أعظمه من عمل يفرج به كرب مكروب، وينفس به هم مهموم، فقد
"كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان
شابًّا يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبدالله مرةً فلم يره،
فخرج في النفير مستعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم.
فاستدل على الغريم،
ووزن له عشرة آلاف، وحلَّفه ألا يخبر أحدًا ما عاش، فأخرج الرجل، وسرى ابن
المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال لي: يا فتى أين كنت؟ لم أرك!
قال: يا أبا عبدالرحمن،
كنت محبوسًا بدَين، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدر، قال: فاحمد
الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبدالله" .
وهذا فيه من دلائل
الإخلاص، وسمو المروءة ما فيه، بل بلغ به الكرم في هذه الجهة ما تضمنته هذه القصة
العجيبة: "جاء رجل إلى ابن المبارك، فسأله أن يقضي دينًا عليه، فكتب له إلى
وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه؟ قال: سبعمائة
درهم، وإذا عبدالله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن
الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبدالله: إن كانت الغلات قد فنيت، فإن العمر أيضًا قد
فني، فأجز له ما سبق به قلمي" .
كأنه أراد ألا يكسر قلب
ذلك المدين، ولا يبعد عنه الفرح بهذا المبلغ الكبير.
جهادُه رحمه الله:
الجهاد باب عظيم من
أبواب الخير التي حث عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وامتثله
نبي الله وصحابته الكرام والصالحون من بعدهم؛ فلذلك على منوالهم سار الإمام ابن
المبارك رحمه الله، وبقي على هذه الشعيرة إلى آخر أيام حياته، فقد مات بمدينة هيت
، وهو عائد من غزوة من الغزوات، وقد اشتهر رحمه الله بالمبارزة والإثخان في العدو
بذلك.
وفاته رحمه الله:
وبعد حياة حميدة قضاها
في كل خير وهبه الله إياه، وأعانه عليه يسلم أبو عبدالرحمن نفسه لباريها، ويغادر
الدنيا، ويترك الله له في الآخرين لسان صدق يلهج بالثناء، ويذكره بالدعاء.
فمات رحمه الله في
"هيت" (على الفرات) منصرفًا من غزو الروم، في رمضان سنة: (181هـ) وله
ثلاث وستون سنة.
ولما احتضر ابن
المبارك، جعل رجل يلقِّنه، قل: لا إله إلا الله، فأكثر عليه، فقال له: "لست
تحسن، وأخاف أن تؤذي مسلمًا بعدي، إذا لقنتني فقلت: لا إله إلا الله، ثم لم أحدث
كلامًا بعدها، فدعني، فإذا أحدثت كلامًا، فلقني حتى تكون آخر كلامي"
.